الرئيسة/  مقالات وتحليلات

الاء النجار: حين يُذبح القلب تسع مرات

نشر بتاريخ: 2025-05-26 الساعة: 00:00

 

 د. ولاء بطاط


عندما تُذبح الطفولة على مرأى العالم، وتصمت الإنسانية، تصبح مجازر الأطفال خبراً عادياً. عامان مرا على نحر البراءة تحت سمع العالم وبصره، فمن سيسمع نحيب آلاء النجار، تلك الأم الثكلى، غير أبناء شعبها الذين كُتب عليهم أن يكونوا شهوداً وشهداء في آنٍ معاً؟

آلاء النجار، الطبيبة الملائكية، لم تكن تعالج أجساد الأطفال فحسب، بل كانت تضم جراحهم إلى قلبها، تمسح دموعهم بأناملها، وتزرع فيهم بذور الحياة. عشقت الأطفال حدّ الذوبان، حتى اختارت طبّهم مهنة ورسالة، ولم تكتفِ بذلك، بل حملت إلى قلبها عشرة أقمارٍ من أبنائها، أنجبتهم حباً، وربّتهم حياة، وجعلت من ضحكاتهم نشيد صباحها ومسائها. كانوا قناديل روحها، وزينة دنياها، وسكّان قلبها الذي ما نام يوماً من الخوف عليهم، وعلى أطفال غزة جميعاً، من صواريخ الموت التي لا تعرف غير الطفولة هدفاً.

وفي صباحٍ كغيره من الصباحات الثقيلة في غزة، غادرت آلاء بيتها نحو المستشفى، تحمل في قلبها قلق الأم، وتترك خلفها عشرة أرواح هم نبضها وكيانها. قبّلتهم قبلةً سريعةً عجلى، ولم تكن تدري أن تلك القبلة هي الوداع، وأن ذلك الحضن الصباحي هو الأخير. أوصتهم ألّا يغادروا المنزل، لعلّ جدرانه تقيهم ناراً لا ترحم، لكنها لم تكن تعلم أن الصاروخ الذي خشيتهم منه، سيغدر بهم وهم داخل البيت، بلا ذنب ولا حماية.

وفيما كانت الطبيبة تؤدي واجبها المهني، استقبلت واحداً تلو الآخر من فلذات كبدها، لا أحياء، بل أشلاء. تسعة قلوب من قلبها تساقطوا أمامها كأوراق الخريف الذابلة، نادتهم والدمع يخنق صوتها:

"عودوا إليّ يا أحبائي، يا من كنتم لحمي ودمي، أين ضحكاتكم التي كانت تملأ أركان البيت؟ إيف، صغيرتي، قومي نلعب كما كنا نفعل! سدين، أميرتي، لماذا لا تردين؟ أين يدكِ؟ أين قدماكِ؟ وجهكِ، أين نوركِ؟".

سيدار يا حبيبتي الا تسمعينني انهضي يا نبض قلبي

ريفال جبران اتسمعوني يا رفاق روحي؟ اجيبوني لا تصمتوا يا كل الحياة.

يحيى يا حبيبي يا اول فرحي وحياتي الم اقل لك انتظرني حتى اعود؟ لماذا يا صغيري لم تنتظرني؟

وتمضي آلاء تنادي أسماءهم واحداً تلو الآخر، تنادي ولا من مجيب. كأنما غارت الأرض بأرواحهم، وكأن السماء قد أطبقت فوق أحلامهم. تسعة رحلوا دفعة واحدة، تسعة قناديل أطفأتها نار الحقد. وحده ادم، الناجي الوحيد، يصارع من أجل البقاء، من أجل أن يمسح دموع أمّه، علّه يكون آخر خيط يربط قلبها المنكوب بالحياة.

فمن يسمع نحيب آلاء؟

من يرى قلبها المذبوح؟

من يشعر بروحها التي فقدت تسعة أرواح دفعة واحدة؟

أيّ قلب في هذا العالم لم يرتجف بعد، وأيّ ضمير لم يستفق؟!

آلاء ليست مجرد أمّ ثكلى، بل مرآة لوجع فلسطين، جرح سبعة وسبعين عاماً لم يجد من يضمده. هي وجه كلّ أم فلسطينية نامت وذراعها حول طفلها، تخشى أن تصحو على صراخٍ لا يسمعه أحد. هي صورة الوطن المنكوب، الذي لم تقدر الكاميرات على تصوير دموعه، ولا الأقلام على وصف نزيفه.

لكِ الصبر يا آلاء،

ولأرواح يحيى و ركان و ايف وجبران ورسلان وريفال وسدين ولقمان وسيدار الرحمة والسلام.

والشفاء ل أدم الناجي الوحيد

ولفلسطين الجريحة، صمود لا ينكسر مهما اشتدّ القهر.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2025