عن البطولة!
نشر بتاريخ: 2025-05-11 الساعة: 00:56
تغريدة الصباح- حسن حميد
فعلاً،
هي بطولة، وصبر، وشجاعة، وإخلاص ما بعده إخلاص أن تصدر جريدة فلسطينية يومية، كل ما فيها أسى، وجروح، ودماء، وأشلاء، وشكاوى، وبكاء، ورثاء، وعتب، وندم، وظلموت يطال كل شيء متحرك وساكن، وحرائق للبيوت والأشجار والثياب والخيام والكتب والقراطيس والأقلام والحبوب والأدوية والطحين والمواعين والحصر والكراسي والطاولات وحليب الأطفال والأبواب والنوافذ والسقوف والستائر والأفرشة واللحف والوسائد وأكياس الطحين والسكر وأواني البلاستيك والمكانس والسلال والهواتف المحمولة والأجهزة الكهربائية عامة وقفف الكاوتشوك وحبال الآبار والدجاج والبط والأوز والأرانب والحمير والبغال والكدش والخيول وعربات الكارو والمقابر والكلام والبكاء؛ وأحزان جلية ظاهرة مثل شمس الصيف تحيط بمن قتلوا في الدروب والزوايا والخيام والمدارس والمشافي والمعابد وقرب الشواطئ، وفي الحواكير، والبراري، وقرب فرنيات الطين التي صارت بديلاً لأفران الخبز، (فرنيات) أقيمت على عجل من أجل الخبز، وفطائر الحميضة والزعتر وحشائش الأرض، وقرب أمكنة توزيع المساعدات الغذائية التي انتهت مددها الزمنية، وشوتها الشمس حتى تكاثر دودها، وانتشرت روائحها، وبدت ألوان عفنها الخضراء والبيضاء والبرتقالية، وقرب (قدور) الشوربة والمعكرونة، والبرغل، والأرز الذي يوزّع عجيناً، وبكميات قليلة، وهو غير صالح لإطعام البشر، إنه أرز حباته طويلة ضامرة، مكتوب على علبه الكرتونية (خاص بالدواجن)، وبقرب علب الكرتون أكياس خيش فيها حب لونه بني، حب مستدير مكتوب على أكياسه (كرسنة) أي جلبانة، وهي طعام يقدّم للمواشي مع التبن بعد أن يطحن، يبدو من بعيد كما لو أنه حب عدس كبير، وبالجوار أيضاً ما تبقى من علب بسكويت أفسدتها حرارة الشمس فامتلأت دوداً لونه رمادي يميل إلى السواد.
يا إلهي، أي قدرة، أي بطولة، يتمتع بها هؤلاء البشر، أهل الصحافة، وهم يجمعون هذه الأخبار الباكية التي يسيل منها خبر واحد، صوره كثيرة، خبر واحد فحواه الحقد، وبه تلحق صفة الأعمى، بلى، إنها بطولة أن تنشر صحيفة فلسطينية يومية أخبار الأسى، لتقول للداني والقاصي: إنّ شعباً يعيش في أقدس أرض، بنى عمراناً لا يضاهيه عمران لم يخالطه الظلم في الدنيا كلها، وشعباً كتب جماليات عقيدته بحروف صرن هن الحياة والرجاء والأمل، وزرع الأرض بالقمح والورد والخروب، وحرسها بالصحو والعافية والعلم، ونشر الكتب العارفات المعرفات الثقال.. ليعرف البشر معنى المحبة والسلام والفرح، شعباً كتب أول نشيد في الدنيا تغنى بالحرية والمجد والأخوة والأرض والفرح نقشاً على القناطر وبوابات البيوت، وعتبات المعابد، شعباً قدس الأمكنة والأطفال، وجعل الرضا أقواس قزح، وضفاف الأنهار أشجاراً وأعشاباً وطيور أوز وبط، وخيولاً لها صهيل له قومة تشبه قومة الأناشيد، وقرى تطلق صباياها في غبشة الفجر كل يوم لتبارك ماء الأنهار بالأغاني، ولتغسل الثياب والأجساد بالنعناع البري، شعباً سمّى أرضه: فلسطين، فسماه التاريخ: شعب فلسطين، شعباً تلفه منذ 76 سنة مجزرة واحدة تتناسل الدم، والموت، والبكاء، والخوف، وتبني المقابر، وتقلع أشجار الزيتون، وتحرم الناس من الفرح، ومن قولة: بلادي، بلادي، مجزرة تشد بأنيابها على كل شيء، وها هي بادية جلية مثل شمس النهار في الضفة الفلسطينية وغزة، شعبا... نادى منذ أن عرفت الدنيا الأنوار: وعلى الدنيا السلام.
بطولة الصحيفة الفلسطينية اليومية، تتجلى في بأس هذا الصبر وقوته، والنفس الطويل للصحفيين، والقدرة العجيبة على كتابات الأخبار التي تقطر دماً ليس من الأجساد التي اخترقها الرصاص الإسرائيلي وحسب بل من الأشلاء التي يعثر عليها هذا البيت الفلسطيني أو ذاك أو ذلك، وألسنة الجميع تسأل أسئلة غريبة عجيبة، أسئلة لم تعرفها الأساطير ولا الميثولوجيا ولا مكنونات السحر، ولا قرى البشر، ولا أزمنتهم الصعبة، أسئلة تنادي في الناس: من وجد منكم شهيداً تنقصه ذراع، ها.. لدينا ذراع، يتنادون ويسألون ويجولون باكين حريصين على أن يذهب الشهداء إلى قبورهم بالقيافة اللائقة، يسألون من وجد منكم شهيدة تنقصها عين، ها.. لدينا عين زرقة لونها بحرية، ويسألون حيارى، من وجد فيكم قدماً لطفل شهيد، ها.. لدينا طفل تنقصه رجله اليمنى، كي يذهب آمناً راضياً، ممتلئاً ثقة، وهدوءاً، وهو يمشي على الصراط، ويسألون من وجد منكم كف شهيدة صبية، لا خاتم ذهبياً في أحد أصابعها، ها.. قد وجدنا خاتماً ذهبياً ما زال قادراً على الإبراق، لتذهب به، متذكرة فرح خطوبتها التي كانت، ويسألون من وجد منكم جثة الشهيد أبو عبودة بائع الترمس في المخيم، ها.. قد وجدنا حزامه الجلدي العريض (أبو بزيمين) وهو بتمام شقرته، ويسألون شارقين بدمعهم، من منكم وجد جثة نجمة، زينة صبايا المخيم، ها.. قد وجدنا شعرها الأشقر ومنديلها الخمري..!
يا الله، من أين لهؤلاء الصحفيين القدرة على تلقف الأخبار، ومن أين لهم القدرة على كتابتها على هذا النحو، إنهم يكتبون بكاء الناس، وقولات الجروح، والألفاظ الأخيرة التي تطلقها شفاه من باغتهم الرصاص هنا في سوق الحسبة/ سوق الخضار، هذه صحيفة تنشر خبرا كتبه كائن نوراني لا قلب له سوى الجسارة، كتب هذه جثة (أبو خديجة) مبروك مخيم جباليا، محروقة إلى حد التفحم، لم يعرفه أحد من جامعي أشلاء جثث الشهداء في سوق حسبة مخيم جباليا، طفل حي، ابن عشر سنوات، كان يخافه كثيراً، قال وبعفوية مدهشة: هذه جثة المبروك أبو خديجة، فانتبه من هم حوله، قالوا له : كيف عرفت؟ قال هذه خرزات قلائده منتشرة حوله، فهزوا رؤوسهم، نعم كانت خرزات قلائده تحيط به كالأسوار، هي الأخرى، احترقت، فكفت عن الحركة والاصطفاق واللمعان فوق صدر (أبو خديجة) لأنه احترق، لأنه مات.
وهذا خبر لصحيفة يومية اخرى، لعل كل ما فيها هم من أهل جنون غير معروف من قبل، يقول الخبر، هذه سيارة طاردتها مسيرة (كواد كابتر) فدمرتها بصاروخ كله نار، عجن حديدها وكاوتشوكها بلحم ركابها وعظامهم، كان ركابها ستة، وهم إخوة، يعملون في إحدى تكايا توزيع الطعام، انتهوا من عملهم قبيل الغروب، فعادوا ليقولوا لأبيهم مبشرين: ها قد نجونا اليوم أيضاً... يا أبي! وليقول صغيرهم (ابن الـ12 سنة): أحتاج إلى 70 شيقلا فقط يا أبي كي أشتري الموبايل، هذه المرة.. لم يصلوا إلى أبيهم، ولم يقولوا له ما أرادوا قوله، وأبوهم لم يسمعهم..لأنه نادى من هم حوله كي يستقيموا، ليصلي عليهم إماما بالبكاء والتمتمات، وحين خار جسده هوى فارتطم بالأرض وهو يقول: لمن تتركوني.. يا أولاد!
أي بطولة هذه، يا أهل صحافة فلسطين!
أي بطولة لمن كتب هذا، ولمن رتب الحروف، ولمن راجع اللغة، ولمن أجاز النشر، قولوا لي.. أرجوكم!