الرئيسة/  مقالات وتحليلات

عندما بدأ الصُمّ في غزة يسمعون أصيب العالم بالطرش

نشر بتاريخ: 2025-04-29 الساعة: 04:31

 

عيسى قراقع

شاهدت فيلم (ذبذبات من غزة) للمخرجة الفلسطينية د. رحاب نزال، تفاجأت بأن الأطفال الصُمّ في قطاع غزة والذين عاشت معهم المخرجة، وراقبت سلوكهم خلال الحروب المتتالية والتي شنتها إسرائيل على القطاع، قد أصبحوا يسمعون هول الانفجارات والارتجاجات ودوي الدمار، يسمعون بأجسادهم المرتعشة، وبأبصارهم المندهشة، يسمعون الصرخات والاستغاثات، يسمعون بملامحهم المرتعبة، باهتزازات أعضائهم، يسمعون بما تقوله وجوه الناس المفزوعين الهاربين من القصف والموت، يسمعون آخر كلمات نطقت بها الرؤوس المقطوعة، وآخر عاصفة للأشلاء البشرية المتطايرة، يسمعون ما فوق الأرض وما تحت الأرض في هذا الجحيم الصهيوني الأمريكي، وما يقوله الشهداء في المقابر المزدحمة.

الصُمّ في غزة هم الوحيدون الذين سمعوا صوت الموت وهو يحصد الأرواح على مدار الساعة، سمعوا صوت الأطفال والنساء الذين يتساقطون أفراداً وجماعات، المسح الشامل للمنازل والعائلات، الحرائق في الخيام، والمدارس والمستشفيات، صوت القنابل التي أيقظت فيهم كل الحواس المعطلة، الصوت في الأذنين والعقل والدماغ، الصوت تحت أقدامهم وفوقهم ومن حولهم، صوت الجوع والأمراض والعواطف الخرساء.

الصُمّ صاروا يسمعون بينما العالم أصيب بالطرش، تجمّد المجتمع الدولي وماتت فيه كل المشاعر، لا قوانين ولا عدالة، لا زفير ولا شهيق ولا حماية، لا دواء ولا هواء ولا ماء، لا أحد يسمع ولا أحد يرى، كأنه لا يحدث شيْ في غزة، العين ترى وعين العالم أصابها العمى.

كل عضو في أجساد الصُمّ تحرك واشتكى، كل نبض وعصب، بينما لم تتداع سائر أعضاء المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان وحراس الكرامة الإنسانية بالسهر والحمّى.

صوت الزنانة اخترق الجسد، طنين وهدير انفجارات ليل نهار، صفير ودخان ولحم مشوي، لا نوم ولا يقظة، لم توفر لهم إعاقة الصمّ الهدوء والسكينة، رسموا صوت الموت على دفاترهم المدرسية وأجسادهم، كوابيس تنطق وتتكلم، وعندما وجدوا كل شيء مغلق، الضمير الإنساني مغلق شاهدتهم يذهبون إلى البحر ليوقظوا الأمواج بلغة الإشارات، البحر يحمل الدماء والجثث والذبذبات، بحر غزة ليس شيطان أخرس.

في حرب الإبادة الدموية والبشعة على غزة، هناك من يسمعون ولا يتكلمون، وهناك من يتكلمون ولا يسمعون، وهناك من غطى عينيه وانضمّ إلى صفوف الميتين.

في حرب الإبادة على غزة، رأيت الصُمّ والبكم وما أكثرهم حولنا ومعنا وفينا، عاجزين لا مبالين، متكلسين، يشهرون لغة مضادة للروح الفلسطينية في معركة دفع الفلسطيني إلى الغياب، يتكلمون كلاماً في الكلام، أغلقوا آذانهم بالطين والتراب، كأنهم ماتوا إنسانياً ووطنياً بطريقة لا مجد فيها ولا فجيعة، يا ليتهم ظلوا صامتين.

أطفال غزة المذبوحين والمتفحمين يقولون: نحن نسمع بالقلب لا بالفلسفة والهرطقة، ومن أصيب بعاهة السكوت فقد تلاشى في الخراب، ومن رضي أن يبتلع لسانه وينتظر أن ترحل غزة من الوجود فقد مات في الموت ساكتاً وجرفه النسيان، الصوت حركة ومقاومة وحياة، الصوت فكر وثقافة وفضاء في الفضاء، فما بال الكثيرين الذين تخلوا عن إنسانيتهم، وأغلقوا آذانهم وأفواههم وتحولوا إلى آلة صمّاء.

لا تقولوا: لم نسمع، لم ترتجف أجسامنا تحت وابل القذائف والصواريخ والحرائق والرصاص، لا تقولوا لم نهان ونعذب وتنتزع إنسانيتنا من لحمنا وعظمنا في السجون والمعسكرات، لا تقولوا لم تغتصب نساؤنا وشبابنا في مراكز التحقيق وتلقى جثثهم في الثلاجات أو الحاويات، ولا تقولوا لم نسمع صوت المداهمات والاعتقالات وتجريف البيوت والمخيمات، عربدات المستوطنين والاعتداءات، لا تقولوا لم ترتج عواطفنا أمام مشاهد المجازر وتناثر الأجساد، الجرائم الصهيونية تدق سمعكم وأحلامكم وكينونتكم إلى درجة أن الموت والقتل أمام بيوتكم في رفح ورام الله، هل فاض الموت حتى تسكت فيكم ينابيع الحياة؟ هل صار الوطن من البحر إلى البحر وطن للموت والشهداء؟

الأطفال الصمّ في غزة يسمعون الآن، ولكن إنسان الإبادة الجديد، الذي صهرته النيران، وهندسته هذه الحرب وجدانياً ونفسياً وجسدياً وسياسياً، قد غرق من الوريد إلى الوريد في البلادة، وإذا لم يكن الإنسان حراً بسمعه ولسانه لن يكون حراً في مواقفه، إنها إبادة سمعية وبصرية وجسدية، إبادة وطن وهوية وإرادة، إبادة إيمانية وروحية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان، فيا أيها الناس: اسمعوا وتكلموا وتحركوا، اخرجوا من الجنازات التي لم تعد للأموات فقط وإنما للأحياء، فالإبادة الذاتية والتدمير الروحي وهو أخطر أشكال الإبادة، ونحن شعب لا نريد سوى الحياة والحرية، وللحرية عين وأذن ولسان وبندقية، وما لا يثيرنا يقتلنا ويسلب وروحنا من المكان.

الأطفال الصُمّ في غزة يسمعون، الحرب والصدمات تشفي النفوس، والأذن ترى قبل العين أحياناً، إنهم يسمعون أكثر مما نسمع، ويرون أكثر مما نرى، يرون الدبابات والطائرات والجرافات الصهيونية، لا تستهدف فقط غزة، إنما تسعى لتدمير روايتنا وحكايتنا، أفران الغاز النازية أصبحت ذريعة لحرق وتجريف حياتنا وإسكات صوتنا من الأرض والتاريخ والذاكرة.

لن نصدق أن الضحية تتحول إلى جلاد، التاريخ يكذب، وما يسمى المأساة الإسرائيلية ليس حلها بارتكاب مأساة فلسطينية وكارثة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر، التاريخ يكذب، وغزة هي الشاهد والشاهدة والصادقة والحقيقة والشهيدة، ليس من اختصاصنا نحن الفلسطينيين أن نوفر حلاً لعقدة أمن الغزاة ومجرمي الحرب الإسرائيليين، بلادنا هي بلادنا، فليبحثوا عن بلادهم إن كانت لهم بلاد بعيداً عن حياتنا العامرة.

الأطفال الصُمّ في غزة يسمعون والعالم أطرش، فيا أيها الذين تسمعون لا تفصلوا الصوت عن الضوء، لا تفصلوا جسد غزة عن القدس والضفة المحتلة، لا تتركوا حيفا وحدها، تحدثوا عن الهوية الوطنية الجامعة، لا تحولوا الانقسام إلى هوية، كما قال الشهيد الأسير وليد دقة، لا تفصلوا اللحم عن العظم والصورة عن الواقع، أرجوكم لا تتكلموا بلغة منهارة، ولا تكتبوا بأصابع ميتة.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2025