الرئيسة/  مقالات وتحليلات

خطاب الرئيس أبو مازن: تفكيك السياق

نشر بتاريخ: 2017-09-21 الساعة: 13:36

عاطف أبو سيف ثمة ملاحظات سريعة واجبة لفهم خطاب الرئيس أبو مازن وتساعد على فهمه،
أولاً، صحيح أن الحضور الفلسطيني الأول في الأمم المتحدة وربما الأهم تاريخياً كان خطاب الزعيم أبو عمار على منبر المنظمة الدولية عام 1974 حين قال للعالم لا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي، لكن الحقيقة أن الرئيس عباس هو من جعل الخطابة على منبر الأمم المتحدة حدثاً للمواجهة مع إسرائيل.  
فبعد عشرين سنة من مفاوضات السلام والحوارات الثنائية برعاية أمريكية وفي أحسن أحوالها حضور صامت للرباعية، فإن الرئيس عباس جعل من خطابه في الأمم المتحدة معركة للصراع مع إسرائيل، لاحظوا الاهتمام والترقب والضغوطات التي تمارس من أجل تخفيف حدة الخطاب ، ليس أن الرجل سيقصف إسرائيل بقنبلة نووية، وليس أنه سيضعضع أركانها بكلماته، ولكن فكرة ان الفتى الفلسطيني يقف أمام المجتمع الدولي ويعري قوى الظلام ويهدم أعشاش الاستعمار بمقولات عقلانية واقعية تزيل كل مساحيق التجميل التي يضعها المجتمع الدولي مخفياً خلفها زيفه، ويفكك مقولات الاخلاق التي يتغني بها، وقتها فعلاً تشعر إسرائيل أن الأرض تميد تحت قدميها وتشعر أن كلمات الفتى الفلسطيني الذي مازال يصرخ منذ خرج من مدينته قبل سبعة عقود: أريد حقي ، هي ما يخيف إسرائيل فعلاً ، هل يضيع حق وراءه مطالب! 
ثانياً، حتى على خصوم الرئيس عباس أن يعترفوا أنه لم يقدم يوماً تنازلاً واحداً أمام المنظمة الدولية عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل إنه نجح بعد استشهاد الزعيم العظيم أبو عمار في تحويل الثوابت الفلسطينية إلى مطالب وضعها على طاولة المجتمع الدولي، وبات على زعماء العالم أن يترقبوا كيف سيقوم الفلسطينيون بالمطالبة بها. الزمن اختلف، وموازين القوى انهارت، لكن وطوال فترة ولايته لم يقدم الرئيس عباس تنازلاً ولو شكلياً في ذلك. قد يكون ولغايات السياسة وعملاً بأصول الحكنة والدهاء، قد صرح هنا أو قال شيئاً هناك، لكنه في نهاية المطاف وحين يتطلب الأمر الموقف المحدد كان يقوله بأكثر العبارات حزماً وأكثر الجمل شدة وبلا مواربة. لاحظوا عبارات من باب: تجفيف مستنقع الاحتلال الإستعماري، و فلا يمكننا كفلسطينيين أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الخطر الداهم الذي يستهدف وجودنا الوطني والسياسي والمادي على أرضنا. 
ثالثاً، نجح الرئيس عباس في إعادة القضية إلى موطن ولادتها في المنظمة الدولية. إسرائيل تريد أن تنفرد بالفلسطينيين فتحاورهم وقتما تشاء وتواصل خلال ذلك نهب أرضهم ومقدراتهم. الحكاية السمجة التي لا يمكن أن تتواصل. لذا جاء خطاب الرئيس صارماً من أول كلمة فيه. بدون مقدمات ولا مجاز ولا تورية ولا شيء، لم يحتج لديباجة الخطباء، ولا مبررات القضاة، ولا قلق الضائعين، بدأ واثقاً حازماً صادماً حين قال للمجتمع الدولي إن عملية السلام لم تأت بالسلام وإن المنظمة الدولية الصامتة تنتهك مبرر وجودها. 
رابعاً، بلاغة الخطاب وقوته وسلاسة تعابيره، وما احتوى عليه من مواقف تشكل استكمالاً للرواية الفلسطينية حول الحق الوطني الفلسطيني. الرئيس أبو مازن يشير للاستعمار و المسؤولية القانونية الاخلاقية والإنسانية لانهاء الاحتلال والوجود الوطني المادي والسياسي ويعود بالقضية إلى وعد بلفور المشؤوم  ومنظومة الاستيطان الإستعماري، كل ذلك يجعل منه تطويراً ملحوظاً على الخطاب السياسي الفلسطيني. خامساً، لاحظوا كيف ختم الرئيس أبو مازن خطابه بعبارة من البحر إلى النهر. لا نوستالجيا في الأمر، لكنه بذكاء العارف أعاد كل النقاش حول الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود القادمين من بقاع الأرض لنهب فلسطين إلى أصله،عاد بالحكاية الفلسطينية إلى نقطة الصفر. إما الحق أو الحق. إما حق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم وإما الحقوق الكاملة التي تضمن المساواة للجميع على أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. أي صرامة تلك وأي استعادة لكل منظومة الصراع ومكوناته ومكنوناته. 
سادساً، لاحظوا أيضاً أن الرئيس أبو مازن ذهب للمجتمع الدولي متسلحا بشعبه، بعد حوارات القاهرة والاتفاق على إنهاء الإنقسام فيما جاء نتنياهو وقاضي التحقيق ينتظره وقد لا ينعم بإجازة رأس السنة مع زوجته التي ربما ستكون أودعت السجن.  أبو مازن ليست في هذه المرة بل في كل مرة يحرص على أن يبدو الشعب الفلسطيني موحداً، وعليه فهو لا يتواني عن تقديم التنازلات في الحوارات الوطنية من أجل أن يكون الشعب على قلب رجل واحد في معركة الوجود في الأمم المتحدة. لاحظوا مكالمة هنية له وهو في نيويورك وحالة الإصطفاف الشامل من الفصائل خلف توجهاته السياسية، لأنه يمثل الوعي الذي يبحث عنه الجميع ، فلو كان أبو مازن ذاهب لتمثل نفسه أو تمثيل عائلته أو حركته لما أفرق معه الأمر، لكنه رئيس الشعب الفلسطيني، من أحبه منهم ومن لم يحبه، بمن عارضه وبمن اتفق معه، لذا فإن المصالحة الفلسطينية والاتفاق الفلسطيني والتوحد الفلسطيني بالنسبة له أساس عملاً بقوله تعالي "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". 
سابعاً، وتأسيساً على السابق، فإن خطاب أبو مازن يصلح وثيقة للإجماع الوطني لأنه يشكل بمواقفه وصياغته تعبير حي عن الوجدان الوطني والمطالب التحررية. ويمكن لفتح أن تقترح لبرنامج لحكومة الوحدة الوطنية القادمة أو وثيقة للاتفاق عليها وعلى ما جاء فيها. هكذا يمكن التأسيس لشراكة سياسية حقيقة قائمة على الاتفاق على مشروع وطني كامل متكامل. 
ثامناً، وفيما يتعلق بقطاع غزة، فإنه قدم بشجاعة القائد قرارات الشعب الفلسطيني بالتوجه للمصالحة ودافع عن هذه التوجهات التي هي تعكس جوهر القرار الوطني المستقل. لا أحد أحرص على غزة من القيادة الفلسطينية، ولا يمكن لأحد أن يستخدم العبارات الرنانة في مواجهة الفعل الصارم والأصيل الذي تقوم به القيادة الفلسطينية للدفاع عن مصالح شعبنا في غزة. وهنا أيضاً على خصوم أبو مازن وعشاق النقد لمجرد النقد أن يعترفوا أنه أكثر شجاعة منهم حين يقف أمام العالم ويتحدث عن ذلك، فهو لم يخشَ أحداً وقال بوضوح لا دولة بلا غزة ولا دولة على غزة وإن المصالحة الفلسطينية هي قرار فلسطيني وإن القيادة تحملت وستتحمل مسؤولياتها على قطاع غزة. فيما البعض يسب في النهار ويمدح في الليل. 
تاسعاً، ومرتبط بذلك، فإن الحديث عن المصالحة يعيدنا إلى المواقف المتشجنة حول الاجراءات الأخيرة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية، والتي على كل من عارضها أن يقر، حتى لو بالخفاء، بأنها كانت ضرورة من أجل ترويض جموح حماس، وفي المحصلة لا يمكن نفي الربط بين حل حماس للجنة الإدارية بدون النظر في تأثير هذه الاجراءات. وعليه فإن "الحرص" الذي شدد عليه الرئيس عباس والمسؤولية التي أكد عليها، لابد أنها تحرج خصومه سيما أنها تأتي في سياق عملي وواضح الأثر والنتائج. 
عاشراً، لا مناص من الخيار إما حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة. ولا مناص من أن يقف العالم امام مسؤولياته وإلا عليه تحمل تبعات من سيجري، ولا مناص من السلام وإلا الفوضى، ولا مناص من الوحدة رغم كل العقبات. وستظل عبارة الدولة الوحدة والتلويح بها ليس هرباً من فشل حل الدولتين ولكن بحثاً عن الطريق الأسلم لشمل الحقوق الوطنية في ظل تعنت إسرائيل هي عتبة الخطاب السياسي الفلسطيني القادم.  
أخيراً، لابد من الالتفات للتأييد الشعبي الكبير الذي حظي به الرئيس وهو يخاطب العالم لقد خرجت غزة عن بكرة أبيها في كل محافظاتها تجوب الشوراع تهتف للرئيس عباس ، لقد كان الصوت الفلسطيني مسموعاً في كل مكان. الفلسطيني يتحدث والعالم يسمع. أليس هذا جوهر ما جرى؟؟

 

far

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024